لا ينال عهدي الظالمين

لا ينال عهدي الظالمين

خلق الله الإنسان ليكون خليفة له في الأرض، يعمِّرها وينمِّيها وينشر فيها قيمَ الحق والعدل ويُظهر عبادة الله بين الناس، قال ربنا سبحانه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].

ومن أجل أن يبلغ الإنسان الكمال في العمارة واستحقاق الخلافة جعل الله تعالى بينه وبين خلقه عهدًا وميثاقًا، أن يعبدوه ولا يبدلوا ما أمرهم الله به، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فعبادة الله تعالى والتذلل لأمره هي الوظيفة والعهد الذي أخذه الله عز وجل على عباده، من قام به وأداه فقد حقق غاية وجوده وأوفى لله، ومن قصر فيه أو نكل عنه فقد أبطل غاية وجوده ونكث ميثاق الله عليه، وباتت حياته فارغة من القصد.

“ومدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر، حيث يصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله. كلها عبادة وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها، وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه”.

وهذا العهد والميثاق اختبر الله به خليله إبراهيم عليه السلام، فقال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. فالله عز وجل ابتلى إبراهيم -كما يبتلي ذريته من بعده- بكلمات من الأوامر والتكاليف، فأتمهن إبراهيم وفاءً وقضاءً، وهذا مقام عظيم، مقام الوفاء والتوفية بشهادة الله عز وجل.

والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفي ولا يستقيم! عندئذ استحق إبراهيم تلك البشرى. أو تلك الثقة: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}، وهي قيادة الأمة إلى الله وإلى تحكيم شرعه وفعل الخير ونشره، ويكون الناس تبعًا له ويكون له قيادة فيهم، وهذه هي الفطرة السليمة التي أرادها إبراهيم للأجيال من بعده، {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، غير أن القاعدة الربانية الماضية إلى يوم القيامة أن الإمامة والقيادة لمن يستحقونها بالعمل والشعور، وبالصلاح والإيمان، وليست بالأنساب والقرابة، تلك القاعدة: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.

وعهد الله سبحانه الذي أراد إبراهيم عليه السلام الإمامة فيه، قال الفخر الرازي رحمه الله: “اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ لَهُ مَعَكَ عَهْدًا، وَلَكَ مَعَهُ عَهْدًا، وَبَيَّنَ أَنَّكَ مَتَى تَفِي بِعَهْدِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفِي أَيْضًا بِعَهْدِهِ ..، الْعَهْدُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْكَ لَيْسَ إِلَّا عَهْدَ الْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَالْعَهْدُ الَّذِي الْتَزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جِهَتِهِ لَيْسَ إِلَّا عَهْدَ الرَّحْمَةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ”.

إنه عهدٌ وثيق ورباط وشيج بين العبد وربه، لذلك لا يستحق شرف حمله إلا من يستحقه من المؤمنين الصادقين، لا من الظالمين المفسدين.

فما كان الله تعالى ليجعل الظالم إماما يقتدي به أهل الخير، وما كان الله تعالى لينال عهده من النبوة والإمامة والإصلاح وتحقيق الاستخلاف في الأرض للمجرمين، وما دام الأمر كذلك، فلا عهد لظالم عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه، إذ هو لا يستحق أن ينال عهد الله له.

والظلم أنواع وألوان: ظلم النفس بالشرك، وظلم الناس بالبغي. والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة: إمامة الرسالة، وإمامة الخلافة، وإمامة الصلاة. وكل معنى من معاني الإمامة والقيادة. يقول سيد قطب: “وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع كذلك في تنحية من يسمون أنفسهم المسلمين اليوم. بما ظلموا، وبما فسقوا وبما بعدوا عن طريق الله، وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم.. ودعواهم الإسلام، وهم ينحون شريعة الله ومنهجه عن الحياة، دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد الله”.

وقوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} نص صريح أتى بانتقاض عهد الظالم، فلا حقَّ له، ولا طاعة لأمره. ومن عجائب هذه الآية أن بعض الناس قد رأوا إشكالاً نحويًا فيها، وذلك أن قوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} جاء فيه الفاعل {الظَّالِمِينَ} منصوباً، وكان المتبادر أن يقال: (لا ينال عهدي الظالمون)، وقد قرأها معظم القراء بنصب {الظَّالِمِينَ} بالياء !! فهي جملة مؤلفة من فعل وفاعل ومفعول به؛ أما الفعل فقوله تعالى: {يَنَالُ}، و{عَهْدِي} هي الفاعل، والمفعول به {الظَّالِمِينَ} جمع مذكر سالم منصوب بالياء.

قال الطبري: “وأما نصب (الظالمين)، فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالمين. وذكر أنه في قراءة ابن مسعود: (لا ينال عهدي الظالمون)، بمعنى: أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله. وإنما جاز الرفع في (الظالمين) والنصب، وكذلك في(العهد)، لأن كل ما نال المرء فقد ناله المرء، كما يقال:”نالني خير فلان، ونلت خيره”، فيوجه الفعل مرة إلى الخير ومرة إلى نفسه” ا.هـ.

ولأن الفعل (نال) يجوز أن يكون فاعله مفعولاً، ويجوز أن يكون مفعوله فاعلاً؛ فأنت تقول: نال الطالبُ الجائزةَ، ويجوز لك أن تقول: نالت الجائزةُ الطالبَ. لذا فمجيء الآية على هذا التركيب يفيد معنى غاية في الإبداع، وهو أن الظالمين ولو اتخذوا الأسباب التي توصلهم إلى نيل العهد، فإن عهد الله وميثاقه شرف يأبى بنفسه أن يذهب لظالم، أو يكون له؛ لأن الأخذ بعهد الله شرف، وهذا الشرف لا ينال الظالمين.

وبالرغم من أن الآية الكريمة واردة بصيغة الإخبار إلا أن المقصود بها هو الأمر، أمر الله عباده أن لا يولوا أمور الدين والدنيا ظالماً. والذي يُرجح أن يكون المقصود بالآية الأمر لا الإخبار، أن أخباره تعالى لا يجوز أن تقع على خلاف ما أخبر سبحانه، وقد علمنا يقينًا، أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها كثيرًا من الظالمين.

وتـأمَّل في قوله تعالى جيدًا: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، ترى أن هؤلاء الظالمين فوق الناس في الدنيا، فلمَّا كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه.

فأبشر يا عبد الله فوالله لن يضيع الله عهده ولن يضعه في يد ظالم أبدًا، وعهد الله دائمًا كائن في يد المؤمنين.

 

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...